فصل: ذكر ظفر المسلمين بالفرنج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين المصريين والفرنج:

في هذه السنة، في رمضان، كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج، وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس، جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر، وحشد، وسار إلى عسقلان، وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعلوا، ويتهددهم، فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره، وطلعوا على المصريين، عقيب وصول الرسول، ولم يكن عند المصريين خبر من وصولهم، ولا من حركتهم، ولم يكونوا على أهبة القتال، فنادوا إلى ركوب خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، وأعجلهم الفرنج، فهزموهم، وقتلوا منهم من قتل، وغنموا ما في المعسكر من مال وسلاح وغير ذلك.
وانهزم الأفضل، فدخل عسقلان، ومضى جماعة من المنهزمين فاستتروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً، فأحرق الفرنج بعض الشجر، حتى هلك من فيه، وقتلوا من خرج منه، وعاد الأفضل في خواصه إلى مصر، ونازل الفرنج عسقلان، وضايقوها، فبذل لهم أهلها قطيعة اثني عشر ألف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، ثم عادوا إلى القدس.

.ذكر ابتداء ظهور السلطان محمد بن ملكشاه:

كان السلطان محمد وسنجر أخوين لأم وأب، أمهما أم ولد، ولما مات أبوه ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، وتركان خاتون زوجة والده إلى أصبهان، ولما حصر بركيارق أصبهان خرج محمد متخفياً، ومضى إلى والدته، وهي في عسكر أخيه بركيارق، وقصد أخاه السلطان بركيارق، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأربعمائة، وأقطعه بركيارق كنجة وأعمالها، وجعل معه أتابكاً له الأمير قتلغ تكين، فلما قوي محمد قتله، واستولى على جميع أعمال أران الذي من جملته كنجة، فعرف ذلك الوقت شهامة محمد.
وكان السلطان ملكشاه قد أخذ تلك البلاد من فضلون بن أبي الأسوار الروادي، وسلمها إلى سرهنك ساوتكين الخادم، وأقطع فضلون أستراباذ، وعاد فضلون ضمن بلاده، ثم عصى فيها لما قوي، فأرسل السلطان إليه الأمير بوزان، فحاربه وأسره، وأقطع بلاده لجماعة منهم: باغي سيان، صاحب أنطاكية، ولما مات باغي سيان عاد ولده إلى ولاية أبيه في هذه البلاد، وتوفي فضلون ببغداد سنة أربع وثمانين وهو على غاية من الإضاقة في مسجد على دجلة.
وقد ذكرنا فيما تقدم تنقل الأحوال بمؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك، وأنه كان عند الأمير أنر، فحسن له عصيان السلطان بركيارق، فلما قتل أنر سار إلى الملك محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعي في طلب السلطنة واستوزر مؤيد الملك.
واتفق قتل مجد الملك البلاساني، واستيحاش العسكر من السلطان بركيارق، وفارقوه وساروا نحو السلطان محمد، فلقوه بخرقان، فصاروا معه، وساروا نحو الري.
وكان السلطان بركيارق لما فارقه عسكره سار مجداً إلى الري، فأتاه بها الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي، وهو من أكابر الأمراء، ووصل إليه أيضاً عز الملك منصور بن نظام الملك، وأمه ابنة ملك الأبخاز، ومعه عساكر جمة، فبلغه مسير أخيه محمد إليه في العساكر، فسار من الري إلى أصبهان، فلم يفتح أهلها له الأبواب، فسار إلى خوزستان، على ما نذكره.
وورد السلطان محمد إلى الري ثاني ذي القعدة، فوجد زبيدة خاتون والدة السلطان بركيارق قد تخلفت بعد ابنها، فأخذها مؤيد الملك وسجنها في القلعة، وأخذ خطها بخمسة آلاف دينار، وأراد قتلها، وأشار عليه ثقاته أن لا يفعل ذلك، فلم يقبل منهم، وقالوا له: العسكر محبون لولدها، وإنما استوحشوا منه لأجلها، ومتى قتلت عدلوا عليه، فلا تغتر بهؤلاء الجند، فإنهم غدروا بمن أحسن إليهم أوثق ما كان بهم، فلم يصغ إلى قولهم، ورفعها إلى القلعة، وخنقت، وكان عمرها اثنتين وأربعين سنة. فلما أسر السلطان بركيارق مؤيد الملك رأى خطه في تذكرته بخمسة آلاف دينار، فكان أعظم الأسباب في قتله.

.ذكر الخطبة ببغداد للملك محمد:

لما قوي أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهرائين من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركيارق، فاجتمع هو وكربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب الجزيرة، وسرخاب بن بدر، صاحب كنكور، وغيرها، فساروا إلى السلطان محمد، فلقوه بقم، فرد سعد الدولة إلى بغداد، وخلع عليه، وسار كربوقا وجكرمش في خدمته إلى أصبهان، ولما وصل كوهرائين إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة للسلطان محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة، ولقب غياث الدنيا والدين.

.ذكر قتل مجد الملك البلاساني:

قد ذكرنا تحكم مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد في دولة السلطان بركيارق، وتمكنه منها. فلما بلغ الغاية التي لا مزيد عليها جاءته نكبات الدنيا ومصائبها من حيث لا يحتسب.
وأما سبب قتله، فإن الباطنية لما توالى منهم قتل الأمراء الأكابر من الدولة السلطانية، نسبوا ذلك إليه، وأنه هو الذي وضعهم على قتل من قتلوه، وعظم ذلك قتل الأمير برسق، فاتهم أولاده زنكي واقبوري وغيرهما، مجد الملك بقتله، وفارقوا السلطان.
وسار السلطان إلى زنجان لأنه بلغه خروج السلطان عليه، على ما ذكرناه، فطمع حينئذ الأمراء، فأرسل أمير آخر، وبلكابك، وطغايرك ابن اليزن، وغيرهم، إلى الأمراء بني برسق يستحضرونهم إليهم ليتفقوا معهم على مطالبة السلطان بتسليم مجد الملك إليهم ليقتلوه، فحضروا عندهم، فأرسلوا إلى السلطان بركيارق، وهم بسجاس، مدينة قريبة من همذان، يلتمسون تسليمه إليهم، ووافقهم على ذلك العسكر جميعه، وقالوا: إن سلم إلينا فنحن العبيد الملازمون للخدمة، وإن منعنا فارقنا، وأخذنا قهراً. فمنع السلطان منه، فأرسل مجد الملك إلى السلطان يقول له: المصلحة أن تحفظ أمراء دولتك، وتقتلني أنت لئلا يقتلني القوم فيكون فيه وهن على دولتك. فلم تطب نفس السلطان بقتله، وأرسل إليهم يستحلفهم على حفظ نفسه، وحبسه في بعض القلاع. فلما حلفوا سلمه إليهم، فقتله الغلمان قبل أن يصل إليهم، فسكنت الفتنة.
ومن العجب أنه كان لا يفارقه كفنه سفراً وحضراً، ففي بعض الأيام فتح خازنه صندوقاً، فرأى الكفن، فقال: وما أصنع بهذا؟ إن أمري لا يؤول إلى كفن، والله ما أبقى إلا طريحاً على الأرض. فكان كذلك، ورب كلمة تقول لقائلها دعني.
ولما قتل حمل رأسه إلى مؤيد الملك بن نظام الملك. وكان مجد الملك خيراً، كثير الصلاة بالليل، كثير الصدقة، لا سيما على العلويين وأرباب البيوتات، وكان يكره سفك الدماء، وكان يتشيع إلا أنه كان يذكر الصحابة ذكراً حسناً، ويلعن من يسبهم. ولما قتل أرسل الأمراء يقولون للسلطان: المصلحة أن تعود إلى الري، ونحن نمضي إلى أخيك فنقاتله ونقضي هذا المهم. فسار بعد امتناع، وتبعه مائتا فارس لا غير، ونهب العسكر سرادق السلطان ووالدته وجميع أصحابه، وعاد إلى الري، وسار العسكر إلى السلطان محمد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في شعبان، وصل الكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس، الفقيه الشافعي، ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بركيارق إلى الخليفة، وهو من أصحاب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومولده سنة خمسين وأربعمائة، واعتنى بأمره مجد الملك البلاساني، وقام له الوزير عميد الدولة بن جهير لما دخل عليه.
وفيها قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور! وكان خطيبها، واتهم العامة الزروع جميعها، ولحق الناس بعده وباء جارف، فمات منهم خلق كثير عجزوا عن دفنهم لكثرتهم.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الغنائم الفارقي، الفقيه الشافعي، بجزيرة ابن عمر، وكان إماماً فاضلاً زاهداً.
وفيها، في صفر، توفي أبو عبد الله الحسين بن طلحة النعالي، وعمره نحو تسعين سنة، وكان عالي الإسناد في الحديث، وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين.
وفيها، في شعبان، توفي أبو غالب محمد بن علي بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي، تفقه على ابن عمه أبي نصر، وكان حسن الخلق، متواضعاً. ثم دخلت:

.سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة:

.ذكر إعادة خطبة السلطان بركيارق ببغداد:

في هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارق ببغداد.
وسبب ذلك أن بركيارق سار في العام الماضي من الري إلى خوزستان، فدخلها وجميع من معه على حال سيئة، وكان أمير عسكره حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامي، وأتاه غيره من الأمراء، وسار إلى واسط، فظلم عسكره الناس، ونهبوا البلاد، واتصل به الأمير صدقة بن مزيد، صاحب الحلة، ووثب على السلطان قوم ليقتلوه، فأخذوا وأحضروا بين يديه، فاعترفوا أن الأمير سرمز، شحنة أصبهان، وضعهم على قتله، فقتل أحدهم، وحبس الباقون، وسار إلى بغداد، فدخلها سابع عشر صفر، وخطب له ببغداد يوم الجمعة منتصف صفر قبل وصوله بيومين.
وكان سعد الدولة كوهرائين بالشفيعي، وهو في طاعة السلطان محمد، فسار إلى داي مرج، ومعه إيلغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك والسلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا إليه كربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فأما جكرمش فاستأذن كوهرائين في العود إلى بلده، وقال إنه قد اختلت الأحوال، فأذن له، وبقي مع كوهرائين جماعة من الأمراء، فاتفقوا على أن يصدروا عن رأي واحد لا يختلفون، ثم اتفقت آراؤهم على أن كتبوا إلى السلطان بركيارق يقولون له: اخرج إلينا، فما فينا من يقاتلك.
وكان الذي أشار بذا كربوقا، وقال لكوهرائين: إننا لم نظفر من محمد ومؤيد الملك بطائل، وكان منحرفاً عن مؤيد الملك. فسار بركيارق إليهم، فترجلوا، وقبلوا الأرض، وعادوا معه إلى بغداد، وأعاد إلى كوهرائين جميع ما كان أخذ له من سلاح ودواب وغير ذلك، واستوزر بركيارق ببغداد الأعز أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وقبض على عميد الدولة ابن جهير، وزير الخليفة، وطالبه بالحاصل من ديار بكر والموصل لما تولاها هو وأبوه أيام ملكشاه، فاستقر الأمر على مائة ألف دينار وستين ألف دينار يحملها إليه، وخلع الخليفة السلطان بركيارق.

.ذكر الوقعة بين السلطانين بركيارق ومحمد وإعادة خطبة محمد ببغداد:

في هذه السنة سار بركيارق من بغداد على شهرزور، فأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم كثير من التركمان وغيرهم، فسار نحو أخيه السلطان محمد ليحاربه، فكاتبه رئيس همذان ليسير إليها ويأخذ أقطاع الأمراء الذين مع أخيه، فلم يفعل، وسار نحو أخيه، فوقعت الحرب بينهم رابع رجب، وهو المصاف الأول بين بركيارق وأخيه السلطان محمد بإسبيذروذ، ومعناه النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان.
وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، وكان محمد في القلب، ومعه الأمير سرمز، وعلى ميمنته أمير آخُر، وابنه إباز، على ميسرته مؤيد الملك، والنظامية، وكان السلطان بركيارق في القلب، ووزيره الأعز أبو المحاسن، وعلى ميمنته كوهرائين وعز الدولة بن صدقة بن مزيد، وسرخاب بن بدر، وعلى ميسرته كربوقا وغيره، فحمل كوهرائين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك، والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركيارق في خيامهم، فنهبوهم، وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق، فانهزمت الميسرة، وانضافت ميمنة محمد إليه في القلب على بركيارق، ومن معه، فانهزم بركيارق، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهرائين من طلب المنهزمين الذين انهزموا بين يديه، وكبا به فرسه، فأتاه خراساني فقتله، وأخذ رأسه، وتفرقت عساكر بركيارق، وبقي في خمسين فارساً.
وأما وزيره الأعز أبو المحاسن فإنه أخذ أسيراً، فأكرمه مؤيد الملك بن نظام الملك، ونصب له خيماً وخركاة، وحمل إليه الفرش والكسوة، وضمنه عمادة بغداد، وأعاده إليها، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد ببغداد، فلما وصل إليها خاطب في ذلك، فأجيب إليه وخطب له يوم الجمعة رابع عشر رجب.

.ذكر قتل سعد الدولة كوهرائين:

في هذه السنة، في رجب قتل سعد الدولة كوهرائين في الحرب المذكورة قبل، وكان ابتداء أمره أنه كان خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بويه، انتقل إليه من امرأة من قرقوب بخوزستان، وكان إذا توجه إلى الأهواز حضر عندها، واستعرض حوائجها، وأصاب أهلها منه خيراً كثيراً، فأرسله أبو كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد، فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى قلعة طبرك، فلما مات أبو نصر انتقل إلى خدمة السلطان ألب ارسلان، ووقاه بنفسه لما جرحه يوسف الخوارزمي.
وكان ألب أرسلان قد أقطعه واسط، وجعله شحنة لبغداد، فلما قتل ألب أرسلان أرسله ابنه ملكشاه إلى بغداد، فأحضر له الخلع والتقليد، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الأمر، وتمام القدرة، وطاعة أعيان الأمراء، وخدمتهم إياه، وكان حليماً، كريماً، حسن السيرة، لم يصادر أحداً من أهل ولايته، ومناقبه كثيرة.

.ذكر حال السلطان بركيارق بعد الهزيمة وانهزامه من أخيه سنجر أيضاً وقتل أمير داذ حبشي:

لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد سار قليلاً، وهو في خمسين فارساً، ونزل عتمة، واستراح، وقصد الري، وأرسل إلى من كان يعلم أنه يريده، ويؤثر دولته، فاستدعاه، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى اسفرايين، وكاتب أمير داذ حبشي نب التونتاق، وهو بدامغان، يستدعيه، فأجابه يشير عليه بالمقام بنيسابور حتى يأتيه، وكان حينئذ أكثر خراسان وطبرستان وجرجان، فلما وصل بركيارق إلى نيسابور قبض على رؤياتها، وخرج بهم، وأطلقهم بعد ذلك، وتمسك بعميد خراسان أبي محمد، وأبي القاسم بن أبي المعالي الجويني. فأما أبو القاسم فمات مسموماً في قبضه، وقد تقدم أنه قتل سنة اثنتين وتسعين.
وعاد بركيارق فاستدعى أمير داذ، فاعتذر بقصد السلطان سنجر بلاده في عساكر بلخ، ويسأل السلطان بركيارق أن يصل إليه ليعينه على الملك سنجر، فسار إليه في ألف فارس، فلم يعلم بقدومه إلا الأمراء الكبار من أصحاب سنجر، ولم يعلموا الأصاغر لئلا ينهزموا.
وكان مع أمير داذ عشرون ألف فارس، فيهم من رجالة الباطنية خمسة آلاف، ووقع المصاف بين بركيارق وأخيه سنجر خارج النوشجان، وكان الأمير بزغش في ميمنة سنجر، والأمير كندكز في ميسرته، والأمير رستم في القلب، فحمل بركيارق على رستم فطعنه فقتله، وانهزم أصحابه وأصحاب سنجر، واشتغل العسكر بالنهب، فحمل عليهم بزغش وكندكز، فقتلا المنهزمين، وانهزم الرجالة إلى مضيق بين جبلين، فأرسل عليهم الماء فأهلكهم، ووقعت الهزيمة على أصحاب بركيارق، وكان قد أخذ والدة أخيه سنجر لما انهزم أصحابه أولاً، فخافت أن يقتلها بأمه، فأحضرها وطيب قلبها، وقال: إنما أخذتك حتى يطلق أخي سنجر من عنده من الأسرى، ولست كفؤاً لوالدتي حتى أقتلك. فلما أطلق سنجر الأسرى أطلقها بركيارق.
وهرب أمير داذ إلى بعض القرى، وأخذه بعض التركمان، فأعطاه في نفسه مائة ألف دينار، فلم يطلقه، وحمله إلى بزغش فقتله.
وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى دامغان، وسار في البرية، ورؤي في بعض المواضع ومعه سبعة عشر فارساً، وجمازة واحدة، ثم كثر جمعه، وصار معه ثلاثة آلاف فارس، منهم: جاولي سقاووا، وغيره، وسار إلى أصبهان بمكاتبة من أهلها، فسمع السلطان محمد، فسبقه إليها، فعاد إلى سميرم.

.ذكر فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس:

في هذه السنة فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس، وكان صاحبها حمو دق عاد فتغلب عليها، واشتد أمره بوزير كان عنده قد قصده، وهو من كتاب المعز، كان حسن الرأي والتدبير، فاستقامت به دولته، وعظم شأنه، فأرسل إليه تميم يطلبه ليستخدمه، ووعده، وبالغ في استمالته، فلم يقبل، فسير تميم جيشاً إلى حصار سفاقس، وأمر الأمير الذي جعله مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه، ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير فإنه لا يتعرض له، ويبالغ في صيانته، ففعل ذلك، فلما رأى حمو ما فعل بأملاك الناس، ما عدا الوزير، اتهمه، فقتله، فانحل نظام دولته، وتسلم عسكر تميم المدينة، وخرج حمو منها، وقصد مكن بن كامل الدهماني، فأقام عنده، فأحسن إليه، ولم يزل عنده حتى مات.

.ذكر عزل عميد الدولة من وزارة الخليفة ووفاته:

لما أطلق مؤيد الدولة، وزير السلطان محمد، الأعز أبا المحاسن، وزير بركيارق، وضمنه عمادة بغداد، أمره أن يخاطب الخليفة بعزل وزيره عميد الدولة بن جهير، فسار من العسكر، وسمع عميد الدولة الخبر، فأمر أصبهبذ صباوة بن خمارتكين بالخروج إلى طريق الأعز وقتله.
وكان أصبهبذ قد حضر الحرب مع بركيارق، ولما انهزم العسكر قصد بغداد، فخرج إلى طريق الأعز أبي المحاسن، فلقيه قريباً من بعقوبا، فأوقع بمن معه، والتجأ الأعز إلى القرية واحتمى، فلما رأى أصبهبذ صباوة ذلك أرسل إليه يقول له: إنك وزير السلطان بركيارق، وأنا مملوكه، فإن كنت على خدمته فاخرج إلينا حتى نسير إلى بغداد ونقيم الخطبة للسلطان، وأنت الصاحب الذي لا يخالف، وإن لم تجب إلى هذا، فما بيننا غير السيف. فأجابه الأعز إلى ذلك، واجتمعا، فعرفه صباوة الذي أمره به عميد الدولة من قتله، وباتا تلك الليلة، وأرسل الأعز إلى الأمير إيلغازي بن أرتق، وكان قد ورد في صحبته، وفارقه نحو الراذان، فحضر في الليل، فانقطع حينئذ أمل صباوة منه، وفارقه.
وسار الأعز إلى بغداد وخاطب في عزل عميد الدولة، فعزل في رمضان، وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وقبض عليه وعلى إخوته، وبقي معزولاً إلى سادس عشر شوال، فتوفي محبوساً في دار الخلافة، ومولده في المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عاقلاً، كريماً، حليماً، إلا أنه كان عظيم الكبر، يكاد يعد كلامه عداً، وكان إذا كلم إنساناً كلمات يسيرة هنيء ذلك الرجل بكلامه.

.ذكر ظفر المسلمين بالفرنج:

في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلماً للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى ملك، وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، بيمند الفرنجي، وهو من مقدمي الفرنج، قريب ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسة آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأسر.
ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعاً كثيراً، ولقي الفرنج، وجعل له كميناً، وقاتلهم، وخرج الكمين عليهم، فلم يفلت أحد من الفرنج، وكانوا ثلاثمائة ألف، غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين.
وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقيهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة زاد العيارين بالجانب الغربي من بغداد، في شعبان، وعظم ضررهم، فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد، فأخذ جماعة من أعيانهم، وطلب الباقين فهربوا.
وفيها أيضاً انحلت الأسعار بالعراق، وكان كر الحنطة قد بلغ سبعين ديناراً، وربما زاد كثيراً في بعض الأوقات، وانقطعت الأمطار، ويبست الأنهار، وكثر الموت، حتى عجزوا عن دفن الموتى، فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد، وعدمت الأدوية والعقاقير.
وفيها، في رجب، سار بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، إلى قلعة أفامية، فحصرها، وقاتل أهلها أياماً، وأفسد زروعها ثم رحل عنها.
وفيها. في آخر رمضان، قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان، بدار السلطان محمد، وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم لم يلبس درعاً، ودخل دار السلطان في قلة، فقتله الباطنية، فقتل واحد ونجا آخر.
وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي، ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد، بناه أبو الغنائم بن المحلبان.
وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جردة، وأصله من عكبرا، وإليه ينسب مسجد ابن جردة، وخرابة ابن جردة ببغداد.
وفيها توفي أبو علي يحيى نب جزلة الطبيب، وكان نصرانياً فأسلم، وهو مصنف كتاب المنهاج.
وفيها، في شوال، توفي عبد الرزاق الصوفي، الغزنوي، المقيم برباط عتاب، وحج عدة حجات على التجريد، ولم يخلف ما تكفن فيه، فقالت زوجته: إذا مت افتضحنا، قال: لم نفتضح؟ قالت: لأنك ليس لك ما تكفن فيه. فقال: إنما أفتضح إذا خلفت ما أكفن فيه.
وفيها، في رمضان، توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد. ثم دخلت:

.سنة أربع وتسعين وأربعمائة:

.ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد وقتل مؤيد الملك:

في هذه السنة، ثالث جمادى الآخرة، كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد، وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد، وتنقله في البلاد، إلى أصبهان، وأنه لم يدخلها، وسار منها إلى خوزستان، وأتى عسكر مكرم، فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق، وصارا معه، وأقام بها شهرين، وسار منها إلى همذان، فاتصل به الأمير إياز.
وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب، فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم، وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته، فازداد ظن إياز باتهامه، فظفر بالوزير، فقتله.
وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولداً، واتصل به العسكر، ووصى له بجميع ماله، فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق، واتصل به، ومعه خمسة آلاف فارس، وصار من جملة عسكره.
وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه، فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو، صاحب آوة، إلى السلطان بركيارق، فأكرمه. ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة، وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفاً، ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفاً، فالتقوا، فاقتتلوا يومهم أجمع، وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق، فيحسن إليهم.
ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس، فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملاً سلاحاً من همذان منها ثمانية أحمال تراس، ففرقت فيهم، فلما وصلت نزل السلطان بركيارق، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى.
ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك، أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق، فسبه، وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة، ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى، ومن حمل أخيه محمد على عصيانه، والخروج عن طاعته إلى غير ذلك، ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة، فقتله بركيارق بيده، وألقي على الأرض عدة أيام، حتى سأل الأمير إياز في دفنه، فأذن فيه، فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه.
وكان بخيلاً، سيء السيرة مع الأمراء، إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.
وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني، فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولاً إلى بغداد، وهو أبو إبراهيم الأسداباذي، لأخذ أموال مؤيد الملك، فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك، وسلم إليه محمد الشرابي، وهو ابن خالة مؤيد الملك، فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه، وعذاب ناله، وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها: قطعة بلخش، وزنها واحد وأربعون مثقالاً.
ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري. فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا، صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد.